قبل أن تتسمي الفلسفة باسمها كان للمتنبي نظرة متعمقة في حال العاقل وحال الجاهل حيث قال:
ذو العقل يشقي في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
أي أن العاقل يشقى في حياته وإن كان في نعمة لانشغال فكره دائماً في عواقب الأمور، ولأن العاقل يعلم تمام العلم أن دوام الحال من المحال، وكذلك النعيم الذي يتقلب فيه هو كذلك زائل. ولهذا فهو دائماً مهتم ومشغول البال بطاعة الله وتحصيل العلم وللنجاح وبر والديه ومساعدة جيرانه والاهتمام بأحوال الأخرين.
فيجهد العقل والبدن كلاهما لعله يخفف من همومه ومعاناته، ويسخر كل ما أنعم الله عليه به في سبيل هذا الأمر.
وأما الجاهل وإن كان يعيش في شقاوة وبؤس فيلعب ويلهو ولا يهتم بأي شئ فكأنه يعيش في نعيم، لكن عقله وقلبه في الحقيقة غافلين ولا يتفكران في نتائج الأمور، وبالتالي فهو غير مدرك لما يدور حوله إدراكاً صحيحاً وإن كان يحمل أعلي الشهادات فهو جاهل يتسبب في إلحاق الضرر بأعماله وكل من حوله.
والجاهل قد يكون لديه بعض المعرفة ولكنه لا يحسن استخدامها أو لا يعرف كيف يوظفها إما لأنه جاهل بقيمتها أو لأن أهدافه في الحياة معدومة فهو خاوي القلب والعقل.
ويري بعض المعاصرين أن النعيم الذي يُشقي أصحاب العقول هو عناء البحث عن المعرفة والتفكر في الملكوت بحثاً عن الحكمة التي هي ضالة كل مؤمن ومبتغي كل عاقل. بينما الجهلاء ينامون دون أن يقدموا خيراً لأنفسهم أو للآخرين.
الموضوع بالفعل متشعب ويمكن لكل متعمن أن يستخلص معانٍ مختلفة، كلٌ علي حسب هواه وإهتمامه. إلا أنني أري أن هناك شئ من التوافق بين هذا البيت الذي افتتحنا به وبين بيت أخر لفيلسوف الشعر المتنبي:
إذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
لا ندرى أي البيتين من الشعر سابقٌ للأخر، إلا أن كلاهما يحمل من الواقع الكثير والكثير. فكم من طامح إلي المعالي أخلفت نفسه الكبيرة نحافة في الجسم وآلاماً نفسية قد تعتريه في طريقه لتحقيق أحلامه وآماله.